مجلة البيان

بوح البوادي... بوح القراءة مقاربة نقدية شارحة

مقاربة نص القراءة لديوان بوح البوادي للشاعر عبد العزيز سعود البابطين مقاربة نقدية شارحة، مسعى يتوجه هاجسه الأساسي إلى العمل في نطاق النقد الشارح. والنقد الشارح هو ترجمة لمصطلح Metacriticism، ويترجم أحيانًا: بنقد النقد، لكني أميل إلى ترجمته بالنقد الشارح، لأن البادئة Meta تتعلق بمستوى ثانٍ من اللغة، أي مستوى شارح لمستوى أول، أو بعبارة الفلاسفة والمناطقة هي:

"نظام ثانٍ للخطاب يدور حول نظام أول: ففلسفة التاريخ هي التاريخ الشارح Metahistory، وفلسفة العلم هي العلم الشارح Metascience، وهكذا فإن النقد الشارح هو الخطاب النقدي والنظري الذي يدور حول طبيعة وغايات النقد الأدبي"[1].

         إن النقد الشارح يبدأ عندما ينتهي خطاب النقد من مهمته، وإذا كان خطاب النقد الأدبي يتوجه إلى تفسير وتأويل وتقييم النصوص الأدبية، فإن خطاب النقد الشارح يبدأ من حيث انتهى خطاب النقد، فيضع هذا الخطاب في موضع المساءلة والفحص، وتصبح مهمتُه هي "الفحص النقدي للنقد: مصطلحاته الفنية، وبنيته المنطقية، ومبادئه وافتراضاته التأسيسية، وتضميناته العامة في النظرية الثقافية"[2]. أو بعبارة أخرى: إن النقدَ الشارح  يهدف إلى إيضاح الكيفية التي تمت بمقتضاها التأويلات، مراجعًا بذلك العمليات التصورية والآليات العقلية والمبادئ والفرضيات التأسيسية لعملية التأويل بما يتضمن تقييمًا للنتائج.

      وإذا كان النقد الشارح كذلك، فإنه يتم النظر إلى مباحثِه أحيانًا بوصفها مباحثَ نظرية الهرمنيوطيقا Hermeneutics، و الهرمنيوطيقا، كما يرى "بول ريكور"، هي: "نظريةُ القواعد التي توجه تفسيرًا ما، أي توجه تأويلَ نص خاص من النصوص، أو مجموعة العلامات التي يمكن النظر إليها بوصفها نصًا"[3]، على الرغم من أن الهرمنيوطيقا يمكن أن تشير أيضًا إلى مقاربة خاصة للنقد الشارح؛ وغالبًا ما يتم النظر إلى النقد الشارح بوصفه تأويلًا شارحًا Metainterpretation، لأن قضايا التأويل تلعب دورًا رئيسًا في النقد الشارح[4].

      ونصُ القراءة لديوان بوح البوادي هو نصُ التأويل والتفسير، إن اقتران فعل القراءة بفعلي التأويل والتفسير يجعل من عملية القراءة عملية هرمنيوطيقية في المقام الأول، فالقراءة تسهم، أولًا، في تحويل المكتوب إلى منطوق، وهذا التحويل ليس استجابة مجهولة للعلامات على الورق مثل الفونوجراف، وإنما ينطوي على عملية فهم لما يصبح منطوقًا به، وينطوي أيضًا على عملية ضم العلامات بعضها إلى بعض في قران بما يتضمن ضم خطاب القارئ نفسِه إلى خطاب النص الأصلي، "أن تقرأ النص يعني أن تضم أو تقرن خطابًا جديدًا إلى خطاب النص، هذا الضم للخطابات يعلن، من خلال بناء النص نفسِه، عن قدرة النص الأصلية على إعادة التجديد .... إن التأويل هو النتيجة القوية للضم والتجديد"[5]. هذا يؤكد أن موضوع تحويل المكتوب إلى منطوق هو موضوع إنتاجي بالدرجة الأولى، أو هو موضوع أدائي، يؤدي فيه القارئ خطابه وخطاب النص نفسه. هذا لا يعني أن ينطق القارئ في حدث مشابه لحدث النص، وإنما يفترض أن ينطق بحدث جديد يبدأ من النص[6]. وتسهم القراءة، ثانيًا، في شرح ما هو غامض أو مختفٍ لتجعلَه واضحًا جليًا معلنًا. أو بعبارة أخرى: إن القراءة تبحث عن المعنى المستتر وراء المعنى الظاهر، إنه بحث عما سكت عنه النص ونفاه واستبعدَه ولم ينطق به، ومهمة القارئ أن يشرح لماذا سكت النص؟ ولماذا استبعد ونفى؟ إنه يشرح آليات اشتغال النص. وتسهم القراءة، أخيرًا،  في الترجمة بين عالمين، عالم النص وعالم القارئ، إن الكتابة بوصفها مشكلة هرمنيوطيقية تخلق نوعًا من المباعدة Distanciation  بين النص والقارئ، كما يرى "بول ريكور"[7]، ولذلك فهناك الاحتياج الدائم إلى "هرمز" الإله اليوناني القديم أو بالأحرى إلى الوسيط الذي يتولى مهمة النقل والترجمة من عالم إلى آخر.

وإذا كان نص القراءة لديوان بوح البوادي متعدد ومتباين بتعدد التأويلات وتباينها، فقد يبدو صعبًا أن يتسعَ المقامُ لفحص مجمل النصوص التي تم إنجازُها لقراءة ديوان بوح البودي، بل يبدو مستحيلًا أن نقومَ بعمل مثل هذا، أو حتى أن نزعمَ أننا نقومُ به، إننا سنتوجه إلى نص قراءة مصطفى ناصف المعنونة بـــ "بوح البوادي للشاعر عبد العزيز سعود البابطين، حوار"[8].

مصطفى ناصف نموذج فريد من النقاد العرب، وهو علامة بارزة في تاريخ النقد العربي المعاصر، قوضت تلك العلامة مفاهيم النقد الأدبي التي دشنتها فترة مابين الحربين، فالنقد الأدبي في تلك الفترة اضطلع بجملة من المفاهيم النقدية دارت حول النص الأدبى وسياقاته التاريخية، والاجتماعية، والنفسية، مما جعل النقاد ينظرون إلى هذا النص بوصفه وثيقةً تاريخية أو اجتماعية أو نفسية. وتجاوز الأمرُ هذا الحد حين تحدث النقاد عن الأثر الذي يخلفُه العمل فى ذات الناقد، ومحاولة إعطاء هذا الأثر قيمة نقدية توجه تفسيرَ هذا العمل. وربما كان ما يشغل عقل الناقد ـ فيما أظن، فى تلك الفترة، هي محاولة التوفيق بين الدراسة العلمية (التاريخية / الاجتماعية / النفسية) والدراسة الانطباعية التأثرية. كان ذلك واضحًا عند "أحمد ضيف"، و "طه حسين" وغيرهم من نقاد تلك الفترة. وفي نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات كانت هناك محاولات أخرى تجتهد في أن تقوضَ تلك المفاهيم السائدة عن النص والمبدع والمتلقي، وإحلال مفاهيم جديدة مغايرة، فلم يعد النصُ مرآةً للمجتمع والبيئة، ولم يعد مرآةً لنفسية منتجِه، ولم يعد النقدُ، أيضًا، تعبيرًا عن انفعالات وتأثرات الناقد التي يشعر بها إزاء العمل، وإنما أصبح ينظر إلى النص بعيدًا عن سياقاته المختلفة التي أنتجته، واستقلاله التام عنها، بوصفه بنيةً لغوية استاطيقية في المقام الأول. وأصبحت مهمةُ الناقد هي الكشف عن تلك المقومات التى تجعل من ذلك النص نصًا مستقلًا.

ينطلق مصطفى ناصف في قراءته للشعر على وجه العموم، وقراءتِه لديوان بوح البوادي على وجه الخصوص من مقولة أساسية يرى فيها أن "القصيدةَ عالمٌ مكتف بنفسِه، يحتاج إلى أن يطرقَ بابَه طرقات متعددة قارئٌ قويٌ ورفيقٌ معًا، حتى يؤذنَ له بالدخول، ولكننا - مع الأسف – لا نعيدُ الطرقَ ولا نكررُ محاولةَ الاستئناس والاستئذان، ولا نثقُ في أن عالمَ القصيدة مغلقٌ وعسير"[9]. وتشير المقولة إلى بعدٍ منهجي يتأسسُ على ثلاثة محاور، أولُها: القصيدةُ الشعريةُ كيانٌ مستقلٌ بذاتِه عن كافة الأنظمة الأخرى ومتميزة عن الظروف التي تحيط بها، ونفسيةِ منتجِها، وتأثيراتها الوجدانية التي تحدثُها في ذات الناقد، ولذلك ينبغي أن تقاسَ بمقاييس خاصة توافق طبيعتَها؛ وثانيها: القصيدةُ بنيةٌ لغويةٌ استاطيقية، وهي ثرية ومحملة بالرموز، ولذلك فإن الناقدَ ينبغي عليه أن يبتكرَ إجراءاتٍ مختلفة لإثراء هذا المعنى؛ وآخرها: القصيدةُ على اختلاف موضوعاتها وتنوعها مترابطةٌ في وحدة استاطيقية، والناقدُ ينبغي عليه أن يتبينَ بطريقة عملية وحدةَ الشعر، وفساد فكرة الموضوعات.

وعنوانُ نصِ قراءة مصطفى ناصف أو ما يطلق عليه جيرار جينيت النص الموازي ينطوي على دلالة معينة، فهو ينقسم قسمين، الأولُ منهما الإشارة المباشرة إلى عنوان الديوان واسم الشاعر، تم يأتي القسمُ الثاني من العنوان مكثفًا في كلمة واحدة: حوار. عند هذه النقطة يتساءل القارئُ ما نوع الحوار، وما دلالتُه؟ سيكتشف القارئ قبل نهاية القراءة العمليات المترتبة على الحوار، وعلى محاولات الاستئناس والخصام أحيانًا، ويبدو الحوارُ قرينَ فكرةِ التأويل وإعادة التأويل واستمرار عمليات التأمل، يقول ناصف: "تأويلُ القصيدة واجب إذا عرفنا أن كثيرًا من المخاطبين مخاصمون، كيف يكون الحوار معهم، هل يكونُ تخطئةً وجدلًا، أم يكونُ تذكرةً بما نسينا؟ القصيدةُ لا تفهم بعبارة أخرى إلا في ضوء الخطاب، والمخاطبُ قد يكونُ قاسيًا مُشيحًا بوجهه، لكن القصيدة تتحدثُ إليه بروح الود والسذاجة. القصيدة تمحو، على هذا النحو، شعرًا وفكرًا واتجاهات أخرى، ببساطة عجيبة وإصرار عجيب أيضًا" (ص 78). إن نصَ القراءة يعلن في جملتِه الأخيرة من النص عن دلالة الحوار، فيقول: "وبعد فهذا نمط من التأويل يخدم النصَ ويخدمه النصُ، نمطٌ من التأملات الحرجة التي هي سمة الثقافة الأدبية في هذه الأيام" (ص 89).

ينفتح نص القراءة بقصيدة الإهداء، لكن لا نلمح كلمةً واحدةً عن أن هذه القصيدةَ هي نص موازٍ خارجي هو الإهداء، الذي ربما ينفصلُ في التقاليد الشعرية عن نصوص الديوان، ولم تضع القراءة عنوانَها على سبيل التوضيح، وما حدث من إسقاط عنوان قصيدة الإهداء يحدث في عناوين القصائد الأخرى، وربما يعود القارئ مرارًا وتكرارًا إلى الديوان ليكتشف عناوين القصائد، وربما تضرب الحيرة بعقل القارئ متسائلًا عن نفي العناوين وإسقاطها من نص القراءة، سوف تتبددُ الحيرةُ حينما يدرك القارئُ إدماجَ عنوان الديوان في عملية تأويل القصائد لنكتشف مشغلةَ الديوان، ومشغلةُ الديوان هي البادية المقترنة بالبطولة، والبوحُ هو بلاغتُها، ويبدو البوحُ "حديثَ السر، وليس إفشاءَ السر. البوحُ معاناةُ التعرف، واختيارُ الصديق، البوحُ أسلوبٌ لإخراج ما تتمتع به البادية من جهر عظيم، مغلفٌ بالسر العظيم.... البوحُ عودُ إلى السر... البوحُ رغبةُ الفهم والتواصل.... هذا هو عمق الديوان" (ص 46).

إن نص القراءة يهمل عن عمد تقسيم الديوان إلى قصائد متفرقة، تحمل عناوين مختلفة وموضوعات مختلفة، إنه البحث عن الوحدة الاستاطيقية التي تُبرزُ التجربةَ الأصليةَ ومشغلةَ الديوان، لا حاجة لنص القراءة إلى العناوين، فالعنوانُ ربما يفسدُ ما تهدف إليه القراءةُ، العنوانُ ربما يكونُ دليلًا على الموضوع، والقراءةُ الاستاطيقية للنصوص تجتهدُ في إفساد فكرة الموضوعات، يقول ناصف: "إذا قرأت الديوان وجدت عناوين كثيرة ما تلبثُ أن تلوذَ بفكرة التجربة الأصلية التي تحتاج إلى حماية مستمرة. العناوين والتفصيلات والمجاهدات الموضعية تعني أن هذه التجربةَ ذات طابع ملتبس منفتح دائمًا. هناك دوافع كثيرة تعملُ ضدَ التركزِ حول التجربةِ الأصلية، لذلك يجبُ أن تُلتمس على الدوام للدفاع ضد أي قالب معين" (ص 88).

لا يشير نصُ القراءة إلى علاقة النصوص بمنتجِها أو السياقات المختلفة المحيطة بالنص، وإنما يقف وقفات متأنية لاكتشاف فاعلية الرموز وتأويلها، فالمرأةُ كائنٌ عظيم، والمرأةُ العظمى لا تُنال مهما يكن ما تَنالُه منها. يكتب ناصف "هذا هو الهاجسُ الذي دب في نفسي حين قرأت المطولةَ المستمرة نحو المرأة" (ص 75)؛ والبكاءُ في هذا الديوان هو بكاءٌ على العربية والعروبة، "لكنه ليس بكاءً غليظًا، إنه يومضُ إيماضًا من خلال تجربة العشق، لمن العشق يا سيدي. العشق للعربية والعروبة، هذا مستوى من المعنى لا يمكنُ التفريطُ فيه" (ص 76)؛ إن الديوانَ بعبارة مختصرة، كما يتصور ناصف، "رمزُ ما ضاعَ أو ما لا ينبغي أن يضيع، رمز التفريق بين القشور واللباب، بين الصحة والمرض، بين الأصالة والطلاء، بين الوجدان الرخيص والفقد العظيم" (ص 76).

إن نصَ القراءة لديوان بوح البوادي للشاعر عبد العزيز سعود البابطين الذي قدمه مصطفى ناصف، هو نص تأويلي بحق، بعبارة أخرى: إن نص القراءة هو حالة من اللعب، والقارئ في تلك الحالة، كما يطرح رولان بارت، يلعبُ على جانبين: إنه يلعب في النص، أي إنه يبحث عن ممارسة تعيدُ إنتاجَه، ويلعبُ النص، أي إنه يؤديه مثلما يؤدي عازفُ الموسيقى لحنًا يختلف مع كل مرة يلعبُه أو يؤديه؛ لكن لا يجب أن ننسى أن كل قراءة أو كل تأويل هو محاولة للتقييم، لقد غاب التقييم عن نص القراءة.

 

 

 

ببليوجرافيا

- ناصف، مصطفى (1981). قراءة ثانية لشعرنا القديم (بيروت: دار الأندلس للطباعة والنشر).

- ناصف، مصطفى (1996). بوح البوادي للشاعر عبد العزيز سعود البابطين: حوار، ضمن كتاب: دراسات نقدية في ديوان بوح البوادي للشاعر عبد العزيز سعود البابطين مع النص الكامل للديوان، أعده للنشر وقدم له: فوزي عيسى (الأسكندرية: مركز الدلتا للطباعة).

Beardsley, Monroe C. and Raval, Suresh (1993). Metacriticism, in the New Princeton Encyclopedia of Poetry and Poetics, Eds. By Alex Preminger and T. V. F. Brogan (Princeton, New Jersey: Princeton University Press).

 Ricoure, Paul (1970). Freud and Philosophy: an Essay on Interpretation, Translated by Denis Savage (New Haven and London: Yale University Press).

Ricoure, Paul (1976). Interpretation Theory, Discourse and Surplus of Meaning (Texas: the Taxas Christian University Press).

 Ricoure, Paul (1981). Explanation and Understanding, in Contemporary Literary Hermeneutics and Interpretation of Classical Text (Ottawa: Ottawa  University Press).

Ricoure, Paul (1991). From Text to Action, Essays in Hermeneutics, II, Trans. by Kthleen Blamey and John B. Thompson (Evanston: Northwestern University Press).

Theory, Ed. By Ralph Cohen (New York and London: Routledge).

Wilson, Barrie A (1993). Metacriticism, in Encyclopedia of Contemporary Literary Theory: Approaches, Scholars, Terms, General Editor and Compiler: Irena R. Makaryk (Toronto, Buffalo, London: University of Toronto Press).



 

[1] Beardsley, Monroe C. and Raval, Suresh (1993), P. 756.

[2]  ibid, P. 756.

[3] Ricoeur, Paul (1970), P. 8.

[4] See, Wilson, Barrie A. (1993), PP. 102- 103.

[5] Ricoeur, Paul (1991), P. 118.

[6] See, Ricoeur, Paul (1981), P. 42.

[7]  See, Ricoeur, Paul (1976), P. 43.

[8] ناصف، مصطفى، (1996)، ص 43-89 ، وسنشير إلي الصفحة في المتن حين الاقتباس أو الاستشهاد.

[9]  ناصف، مصطفى (1981)، ص 6.