مجلة البيان

من سجل يوميات التغريبة السورية... قصص قصيرة جداً...

قصة

من سجل يوميات التغريبة السورية...

قصص قصيرة جداً...

بقلم: عبد الله أبو راشد*

مناجاة

  تأبط حزنه المزمن في سويعات الألم سارحاً بصوته الشجي بكلمات متهدجة في تراتيل وبلكنة عامية مخنوقة الإيقاعات والرتابة: (شوف بقينا فين يا حظي العاثر, شوف بقينا فين). قالها بحزن بالغ وعيناه مبتلتان بنهر دموع منسكبة للتو من مقلتيه. كجداول ماء مُتفجر للتو من ثنايا صخرة صلدة عصية عن معاول النحاتين وأزاميلهم. كانت مطراً منهمراً على خديه حافرة أخاديد الزمن العربي الرديء وأوجاعه الشخصية. تارة يندب حظه العاثر أبداً, وتارة أخرى أهله وعشيرته وذويه. أولئك الموزعين في أصقاع المعمورة كمهجرين في بلاد العرب والأعاجم. ينتظر دوره في مجرة أحزانه وأزمنة التيه الأعجمية. ينتظر دون معرفة لما تؤول إليه خطوته القادمة, جاهلا مصيره بمزيد من الألم والعذابات المشروعة نحو أحزان مُتجددة, تقوده إلى التبحر في أمواج دموعه المتدفقة مردداً للمرة العاشرةً: (شوف بقينا فين يا حظي العاثر شوف بقينا فين).

حدس امرأة

 وضعت كلتا يديها على قلبها, تتحسس حركته وترصده بمزيد من العناية والترقب. فثمة خطب جلل وهاجس يمر في خاطرها. يضرب على أوتار شرايينه ونبضه بعلامات إشارة مُتسارعة, تنبئ بخطر مُحدق بقريب لها أو حبيب.

هروب إلى الأمام

 رنين هاتفه المحمول لم يتوقف. التقطه ونظر إلى المتحدث برقمه الغريب ضاغطاً بكلمة ألو... جاءه الجواب مفاجئاً من أخيه الذي غادر مكان هجرته الأخيرة في بلدة (قدسيا) السورية باعتبارها بلدة ملعونة, على حد قوله إلى غير رجعة. طرق صوت أخيه المتهدج والمتعب أسماعه كمعزوفة حزن لتغريبة فلسطينية من نوع آخر: أنا في درعا الآن , أناشدك الله يا أخي ألا تُعطي رقم هاتفي المحمول لهم, ويقصد بذلك زوجته الثانية وبناته الثلاث منها. ملحاً برجاء واضح. ألا تُخبرهم بمكان وجودي, متابعاً كلماته المؤثرة التي تقرع أذن أخيه (سامح) باستمرار. وكأنها طنين جرس مدرسي لا يتوقف عن الرنين. تابع معزوفته المحزونة بقوله: لقد طردوني من منزلي. قالها بحجم مرضه الذي عاجله على حين غرة, ولم يبق له فرصة للنجاة من موت منتظر. لقد قالوا لي: لديك أولاد من العا...رة... وأنت تُحبهم. اذهب إليهم واشبع منهم. وقالوا أشياء كثيرة لا تليق به كأب متعدد الزوجات. ولا بحالته الصحية كمريض على أعتاب موت مُقبل ومُحقق.

 عقدت الدهشة مخيلة أخيه (سامح) وماتت الكلمات فوق لسانه الرطب الذي آثر الصمت. مردفاً القول بعد لحظات من السكون, وانتهاء المكالمة الهاتفية العاجلة من رقم بات معلوماً صاحبه: مرددا بسره: اللهم أحسن ختامنا. أيعقل بعد كل هذه السنوات أن ينتهي المطاف بأخي الوفي لأبنائه إلى هذا الدرك الأسفل من السوء؟ وهذا التنكر المفضوح لأولاده وزوجته وبناته الذين أكرمهم طيلة حياته الميسورة, وأن يكون الجحود والتنكر والحقد له بالمرصاد. يا الله ارفق بنا ولا تُخرجنا من رحمتك. واجعل أولادنا بارين بنا. قالها (سامح) بأسى بالغ وصدق مشاعر وخوف من المجهول, وما تحمله يوميات الهجرة في بلدة (قدسيا) من مفاجآت.

قدر لا مفر منه

 أقسم بجميع الأيمان أنه غادر بلدة (قدسيا) السورية التي كرهها كرهاً شديداً ولن يعود إليها. لكن رغبته الشخصية المشروعة تتعارض مع رياح قدره المرسوم الذي لا مفر له منه. فإرادة الله الخيرة كانت له بالمرصاد ترقب أقواله وأفعاله وحركاته, ومُحددات وجوده القسري في لحظات الاختيار الفاصلة. فكانت عودته المشهودة رغم أنفه إليها, ولكن مُسجى في حضرة الموت كجسد راحل ومُستقر في مقبرة الغرباء في تلك البلدة التي وصفها في مفترق ألم بالمشؤومة.

الانتظار

 أدمن الانتظار وصار صديقه الوفي الذي لا يُفارقه البتة حتى في سويعات صحوه ونومه. في منزله وأماكن عمله وتجواله. ولما لا فهو أكثر الأوفياء في هذه الأيام العصيبة التي غادرها الجميع من أصحابه وأحبابه. فهو أكثر أُلفة وأصدق وقفة من الذين تركوه وحيداً يُصارع وحدته بالانتظار.

 

 

محاورة

 كيف حالك؟ هذا هو السؤال الأكثر تكراراً وإلحاحاً, وطرقاً لأذن السامع وتأثيراً في خلجات قلبه. والجواب طبعاُ كلمات: الحمد لله. هي أكثر المفردات تمسكاً بإرادة الحياة وتجاوز ما يحمله الواقع من غرائب ومواقف مباغتة لا مناص من حدوثها, والرضا القسري هو سيد الموقف ولا شيء سواه. يبدو ان ظلمة الواقع وجلاديه طالت الجميع وعلى قدم المساواة في الدم والألم. فالحرب ما زالت مُستعرة والبيوت مُدمرة والناس ما زالوا ينتظرون دورهم الطويل في معابر الموت المجاني. والجميع تحت الضرب والموت والقتل. ولا أحد خارج الموضوع. أنت في سورية موجوع بذاتك وأهلك وأصحابك. مُدمى بجراحاتك التي لن تبرأ. ودموع تنهمر كأمطار عاصفة في أيلول قاتل ومُميت. والجميع سواسية بالموت الزؤام والعذابات والهم واحد والمأساة متعددة الوجوه. ويبقى في كل مُفترق طريق ومُصادفة لأصدقاء. يتردد صدى كلمة كيف حالك؟ فيكون الجواب. الحمد لله. لازمة شكر يُتقنها الجميع أصدقاء وأعداء ومتحاربون. وأمست قصيدة التصافح اليومية لأوجاعهم.

 

 

 



*  كاتب وفنان وناقد تشكيلي فلسطيني.