معبد بتاح في "منف" الألف الثاني قبل الميلاد
تحسست خطواتي...نعم...نعم...درجات سلم، تجاويف تطابق أقدامي؛ لمست أصابع القدم اليمنى نقوشا بارزة وأخرى غائرة؛ قرأتها، لا أدري كيف!،كانت تردد بلا توقف: "لا تنظر إلى الوراء" أطعت الهمس الخفي، خطوت خطوة أخرى،وضعت قدميَّ في أماكنها المحفورة منذ القدم، وتابعت السير حتى تردد صوت في أذني؛ صوت ينبع من تلك النقوش، لا بل من خارج الزمن.
كيف جئت إلى هذا المكان؟! أكاد أذكر سحابة القلق التي أحاطت بروحي وأنا أخطو نحو باب الكهف الصخري، كل ما حملته معي من العالم الذي كنت أحيا داخله: كلمات قاسية كصخر المعبد المهجور، قالها لي تف نخت مرشدي إلى عالم الظلال الذي كان على وشك أن يلفني" :هناك سوف تنحني وتقبض ثلاث قبضات من العدم...ظلمة الكهف سوف تنير لك السبيل حتى تجد فتحة بئر الأسرار؛ تمسك بجدران البئر، اهبط تسع وتسعين درجة، لا تخف، سوف تجد تجاويف مرسومة؛ دع قدميك العاريتين تلتحف بها،تسكن إليها، دعها تخبرك عن أسرارها ..."
سبع وتسعون...ثمان وتسعون...تسع وتسعون...توقفت عن الحركة، لم أدر أي قدر يسوقني، تلفت وعيوني مظلمة، لم يُسمح للضوء أن يلهو بهما؛ مددت يدى أطوف بها جدران البئر، حتى وجدت عصا عليها تجاويف حلزونية ورسوم، كان عليَّ أن أمسك بها وألوح ثلاث مرات نحو اليمين وثلاث مرات نحو اليسار، بدأت العصا تنفث النار المقدسة؛ أحسست بلهيبها الحاني على وجهي، بين جوانحي، أسفل قدمي...
كل شيء من حولي يدعوني للمسير... شعلة الحياة التي تقبض عليها كفي اليمنى في استماتة؛ كلمات تف نخت، وأقدامي التي لا تزال تتذكر ما قيل لها عندما كانت تخطو على درجات الجب...حتى استوقفني من يقول:"باب الحياة والموت يطلب ممن هو قادم أن يتلو ما يجب أن يقال..."
تهادت إلى أذني أصوات مبهمة تهمس... تصرخ... تشكو... وتنعي
كلها تردد: تعال... لا تذهب...تعال... ساد السكون ذلك العالم الخفي، وبدون مقدمات هبت ريح عاتية من كل مكان...لم تستكن حتى وأدت اللهب الذي كنت أحمله في صحراء النسيان، وأخيرا طلب مني أن ألقي العصا وأفتح جفوني...فعلت وأنا أردد: أنا قادم...أنا قادم... سور دائري يحيط بكل شيء من حولي؛ يلامس أنفاسي، تماثيل تلامس رؤوسها قطع من الظلام تنظر إليَّ في ريبة واشتياق، تطالبني بما يحييها...كان كفي الأيمن يبحث عن ما يطلبونه؛ بحثت في ثيابي (جسدي) حتى وجدته؛ قطعة من الجرانيت الأحمر صغيرة بحجم نصف الظفر منقوش عليها عقرب في جانب وجعران في الجانب المقابل.
لوحت بتلك القنينة الصخرية أمام من كانوا أمامي؛ امتلأ الفراغ من حولي بصرخات تطلب ما تحتويه تلك العلبة الحجرية، أياد وأطراف تمتد في فزع وشوق...كان لابد أن أنطق بآخر كلمات تف نخت حتى ينشق صندوق الأسرار الجرانيتي وينفث ما يحتويه من زئبق أحمر إلى الفضاء المسور من حولي... رأيت التماثيل تمد أفواهها إلى وتلعق، تستنشق، تتداخل وجوهها، تموج حولي في دوائر حمراء قانية،و قبل أن يسود الظلام سمعت صريراً خافتا،باب حجري يُفتح، و ضوء خافت يزحف على استحياء، وجوه أعرفها ترنو إليَّ، تتقدم في ثقة وفرح: "أحسنت يا حرى تب" كانت هذه أول مرة أسمع أحدهم ينطق اسمي الذي نسيت حروفه من سنين، كان صوت تف نخت مرشدي إلى اختبار الكهنة الجدد والذي اجتزته بنجاح منذ لحظات.
مقابر مدينة منف 1915م
آلاف المعاول تدق الأرض الترابية، أصوات متداخلة لعمال جاؤوا من أماكن بعيدة سعيا إلى قروش قليلة، خيمة صغيرة أعلى التلة، رجل وجهه مشرب بحمرة وشارب كبير يلبس قبعة من قش تحمى رأسه و وجهه من شمس تنظر إلى كل هذا الصخب وتحاول بأشعتها القاسية أن تبعث الهدوء في أرض السكينة الأبدية (مقابر منف العتيقة) يصرخ دسوقي ـ وهو شاب في العشرين من عمره، أتى من قرية لا يذكر أحد اسمها من قرى الدلتا ـ:"باب قبر...باب قبر"؛ خرست كل الألسنة، انهارت كل المعاول، حتى ذلك الرجل الأجنبي نظر في اهتمام بالغ وأسرع يرى أين ذلك القبر المزعوم...فجوة رملية تحيط بصخرة بيضاء رمادية، عليها نقوش ورسوم قديمة مألوفة عند العمال، وذلك الإنجليزي القادم من وراء البحار بدا وكأنه ثعلب يتشمم فريسته؛ ظل يخطو في حرص حول الحجر وكأنه يخشى عليه من خطواته، ثم تحول فجأة إلى الصراخ في العمال:"هيا أزيلوا الرمال...كل الرمال...أريد أن أرى ذلك الحجر"...امتثل دسوقي والعمال أملا في أن يعطيهم الرجل الغاضب قروشا إضافية...
كان باب القبر عبارة عن بلاطة كبيرة بيضاء يشوبها اللون الرمادي الداكن، منقوش عليها عقرب وجعران متجاوران؛ نظر الرجل الغاضب إلى اجتماع النقشين وبدأ في الصراخ من جديد:"رباه رباه... هنا يرقد حرى تب... غير معقول...احفروا بقوة... احفروا بقوة..." بدأ العمال في إزالة الحجر الأبيض الذي أبان درجات سلم عتيق؛ تقدم الرجل الانجليزي هذه المرة وطلب من دسوقي أن يتبعه، وأشار إلى باقي العمال أن يبتعدوا مسافة كافية، وحذرهم من محاولة النزول خلفه إلى داخل القبر المظلم... أوقد دسوقي شعلة إلا أن الأجنبي طلب منه أن يطفئها ويهبط خلفه،لم يكن لدى دسوقي إلا أن يطيع الأمر... بدا القبر رطبا مظلما يكاد نور النهار أن يرسم ظلالا خافتة تتقدم في حذر داخل بيت الأبدية، ممر ضيق تحوطه جدران تملؤها رسوم ملونة؛ فرح بها الانجليزي وأخذ يقرأ ما بها من رموز عتيقة ويصرخ في هذيان... "حرى تب يرقد هنا... حرى تب هنا... نعم هذا هو اسمه وألقابه الكهنوتية وهاهو طريق الاختبار الذي مر به منذ قرون عديدة... احتفظ بكل هذا من أجلي...نعم من أجلي...خالف كل تعاليم الكهنة الأقدمين...وهاهو يذكر ما حدث في كهف الأسرار وكيف تناول الشعلة المقدسة وأطعم من لا اسم لهم الزئبق الأحمر... أين تلك القارورة الجرانيتية؟...لابد أنها هنا... لم يكن ليعرض نفسه للعقاب الأبدي بذكر الأسرار ولا يترك وراءه قنينة أخرى بها ذلك الكنز الأحمر... في تابوته...أين...في الجدران...لا أرى أي إشارات ...لابد أن أنزع قناع المومياء...الأكفان...أزيل التمائم من العنق...من موضع القلب...هاهى تعويذه القلب..." وأخذ يقرأ: "وليكن قلبي في بيت القلوب، وليكن صدري معي في بيت القلوب، ليكن قلبي معي ويبقى معي وإلا فإني لن آكل من خبز أوزيريس في الجانب الشرقي من بحيرة الزهور، ولن أركب القارب الذي يحملني في النيل ليكن فمي معي وليكن لي كي أتكلم، وليكن لي ساقاي لأسير بهما، ويداي لأهزم أعدائي ولتفتح لي أبواب السماء"... تلا الرجل الأجنبي تلك الكلمات ودسوقي ينظر إليه في رعب و فزع خشية أن تنشق الجدران وتمتد أيادٍ لا عدد لها تنتزع قلبه وأحشاءه؛ لقد سمع الكثير من العمال عن حالات الجنون التي تأكل عقل الأجانب بعد اكتشافات لقبور مثل هذه...تكور في جانب من الحائط الرطب وأمسك رأسه بين يديه وهو يتلو ما استطاع أن يتذكره من القران، أغمض عينيه حتى لا ترى المزيد من الأشباح الغاضبة التي كان يظن أنها تملأ القبر الملعون، اهتز جسده عندما سمع صرخات الانجليزي وهو يبحث في يأس عن شيء لا يعرفه ويتمتم:"أين تلك القارورة ...لو عثرت عليها سوف أصبح أغنى رجل في انجلترا، لا لا بل في أوروبا كلها، لا بل في هذا العالم كله؛ تكلم يا حرى تب...انطق أيها الخبيث،أحذرك يا حرى تب، سوف أمزقك حتى أعثر عليها...أعلم أنك تخبئها في مكان ما معك؛ لتساعدك في العبور بسلام إلى العالم الآخر...لقد نزعت كل أكفانك؛ لم أجدها، أنذرك للمرة الأخيرة إن لم تتكلم سوف أحطم فمك، وأهشم جسدك، لن تستطيع روحك التعرف عليك مرة أخرى، سأمزقك إرباً إرباً؛ اعترف...قل كلمة واحدة"..
شاهد دسوقي الانجليزي ينهال على المومياء بفأس صغيرة و يصرخ: "سوف أجدها في رأسك ياحرى حتب، لالا ... هشمت الرأس ولم أجد شيئا...الصدر...لا الصدر فارغ...البطن... الأيدي... الذراعين الساقين...لا لا يوجد أي شيء...نعم...نعم العنق...هو العنق..." هدأ الأجنبي فجأة وبرقة غريبة بدأ في استكشاف عنق المومياء الممزقة؛ ترددت صرخات محمومة: "وجدتها وجدتها أخيراً قنينة الزئبق الأحمر ها هو الجعران والعقرب معاً، معا للأبد ..." ثم سقط الأجنبي على أرضية القبر بجانب أشلاء المومياء، ممسكة كفه بالقارورة العتيقة؛تلاقت نظراته مع عيني دسوقي المرتعب، الذي هوى بحجر على رأس الانجليزي وفتح أصابعه المتشنجة واستخرج العلبة الصخرية من بينها ونظر إليها في فرح طاغ ثم ترك القبر تسكنه جثتان.
مستشفى الأمراض العقلية العباسية القاهرة 1945
تتعالى صرخات مألوفة في عنبر 12، ممرض ضخم الجثة يفتح باب العنبر الكبير وهو يهدد ويتوعد: "كف عن الصراخ المعتاد كل ليلة؛ نريد أن ننام، الطبيب في مسكنه بعيدا طلب مني ألا أزعجه وذكرك بالاسم (دسوقي) نعم دسوقي أنت، كل ليلة تهذي وتصرخ: "أنقذوني...دعوني...لا أريد أن تأخذوني معكم...خذوا الزئبق الأحمر أو الأخضر لا أعرف..." ظللت ثلاثين عاما مريضا هادئا...حتى تلك الليلة التي ابتلينا جميعا بصراخك كل ليلة، و أنت تشير إلى المريض الجديد الصامت...كل ما قاله منذ جاء كلمه واحدة، مجرد كلمة واحدة؛ أن اسمه (حرى حتب).