حوار
جبار ياسين* لـ "البيان"
الأدب لا يعطي أجوبة لكنه يحفز على التساؤل
· مهمة الأدب التوصيل وبعث وتحفيز القارئ على التفكير. لأن الأدب لا يعطى أجوبة ولكنه يحرض على التساؤل واستجواب العالم.
· تعود الذكريات والأصدقاء. تعود عطور الأشجار والورد، قداح البرتقال ورائحة النارنج، و زهرة الجوري.
· جمهورية الأدب واسعة لا تعترف بالحدود، هي ربما هي الجمهورية الوحيدة في عالمنا المعاصر التي لا تعترف بالحدود السياسية أو اللغوية.
· نحن الآن في مرحلة تجتمع فيها الأشياء في نص واحد. القصيدة يمكن أن تكون مسرحاً. والمسرح يمكن أن يكون شعراً أو سرداً ويكون أيضاً خطبة.
"جبار ياسين، هو ذلك المبدع الذي يحيا بروح طفل عاشق للحياة ولكل ما هو جديد بها، أحد المبدعين العراقيين الذين تنوعت مجالات إبداعهم الأدبى ما بين القصة والشعر والرواية والمسرح، مروراً بالترجمة وغيرها من فنون الإبداع إيماناً منه بأن المبدع ليس كائن وحيد الخلية ولكن بإمكانه امتلاك خلايا متعددة، مؤكداً بأن جمهورية الأدب واسعة لا تعترف بالحدود"
أجرت الحوار: سماح عبد السلام
· تقيم بعيداً عن العراق منذ أربعة عقود، فما الذي أخذته منك الغربة؟ وهل أضافت لك شيئاً؟
- أبدأ بمقالة للكاتب الروماني سيرون "بعنوان مزايا المنفي"، إذ يقول: يتعلم الإنسان في المنفي فكرة الاختلاف، فكرة النظر إلى الآخر، والأشياء، وإلى نفسه بطريقة مختلفة. فالمسافة بيننا وبين الوطن أو بيننا وبين اللغة الأم التي تحدثناها، والمسافة بيننا وبين الزمن أو المكان الذي عشناه تضطرب، في هذا الاضطراب يظهر مكاناً جديداً، وهو المكان الذي نحن فيه، أو ما يُسمى بمجتمع الضيافة, فنعيد النظر لأشياء كثيرة. كأننا نصعد على سفح جبل وننظر. النظرة تكون أكثر شمولاً واتساعاً و أكثر دقة من حيث أن التفاصيل الصغيرة غير المهمة تضيع. وتبقى التفاصيل المؤثرة في الوعي. ذلك المنفي أو الغربة كما نسميها. علماً بأنني لم أعش الغربة ولكنى عشت المنفي. ذلك لأنى اضطررت لترك بلادي قسراً، فهذا منفى وليس غربة. اكتشفت أشياء كثيرة تتعلق بحياتى و بثقافتى. استطيع القول أنني بمرور الزمن صرت إنساناً آخر. ولكني أنا نفسي في ذات الوقت. في هذا التناقض والمواجهة اليومية في الوعي، وفي الحياة العملية والمادية تظهر شخصية جديدة، تجمع بين نظرتين وثقافتين وتأمل بين للواقع وللفكر. ما أخذه المنفي منى عوضه في الوقت نفسه. اخذ منى العائلة، الوطن والأصدقاء و بعضاً من لغتي التي كنت أتحدثها. كما أخذ الألفة اليومية. هذه الألفة التي كنا نعيشها يومياً في المدرسة والعائلة والضجيج اليومي للحياة. لكن المنفى عوضني بأشياء أخرى.
مفتتح الغريب
· رغم كونك كاتباً متمكناً إلا أنك تميل للمباشرة والتبسيط على القارئ. فما تعليقك؟
- لا أميل إلى المباشرة. و إنما إلى العبارة البسيطة الواضحة بكلمات قليلة دون حذلقة أو تثاقف. العالم بسيط ومعقد في الوقت نفسه. وفي اللغة البسيطة نكشف عن العالم البسيط ولكنه المعقد. تبدو عبارة كامو في مفتتح الغريب "اليوم توفيت أمي، أو ربما أمس لا أدري". في هذه العبارة ما سيأتى مفتاح الشخصية. تظهر شخصية مارسو، الشخص الذي لا يهتم بالأشياء. ويبدو له أن لا شيء هناك مهم. وكل شيء عبث بما في ذلك موت الأم. فخلق في ذلك ما يعُرف بشخصية مارسو التي نعرفها في الأدب كشخصية عبثية. ليس هناك أسهل من هذه الجملة التي يمكن أن يقولها طفل. فالأدب لا يبحث عن التغريب اللغوي أو الحذلقة. الأدب مباشر. هو التنوع البسيط. الجمهورية التي تجمع الأشياء بحرية مطلقة. وفي هذه الحرية المطلقة هناك بساطة. قرأت ما كتُب عنى سواء بالإيطالية والفرنسية والعربية. إذ قيل أن ما أكتبه أقرب إلى السهل الممتنع. لكي نصل إلى عبارة بسيطة مجردة من الزخارف والمنمنمات. وهذه مسألة عامة في الفن. فالفنان الذي يملأ لوحته بالكثير من الأشياء والشخصيات دون أن يترك للفراغ مكاناً تبدو لوحته أكواماً من الأشياء. كذلك الأمر بالنسبة للعبارة الأدبية. لابد أن تكون واضحة مركزة. مهمة الأدب التوصيل وبعث وتحفيز القارئ على التفكير. لأن الأدب لا يعطي أجوبة ولكنه يحرض على التساؤل واستجواب العالم، الأشياء. لذلك لا فكر أبداً عندما اكتب لخلق عبارة "بروستية" طويلة نسبة إلى الكاتب الفرنسي الشهير مارسيل بروست. أفضل العبارة القصيرة التي تصل للقارئ في أسرع وقت. ومهمة هذا القارئ إعادة اكتشاف ما في العبارة أو العالم. اكتشاف العالم بطريقة مغايرة، لأن الثبات وتكرار نفس الأشياء هي تعبير عن ملل العالم والكاتب في نفس الوقت.
§ تبتعد عن التجريب اللغوي علماً بأنك غارق في موضوع الحداثة؟
- من قال أنني بعيد عن التجريب اللغوي؟. فأنا سجين محبسين في اللغة. وسجين حريتين. أراوح بين الفرنسية التي هي لغة منفاي، والعربية لغتي الأم. أحيا في صراع بين لغة الأدب ولغة الأم. وهذا الصراع بالتأكيد يولد تجريبية. وكثير من الأصدقاء أكدوا لي أن عبارتي أحياناً تبدو ناقصة، أو غريبة و أحياناً آخرى تبدو وكأنها ترجمة. أحياناً أخفق في نحت العبارة العربية حينما أعيد كتابة النص باللغة العربية. هناك نقص في نحت العبارة. هذا ناتج من الحبس بين حريتين. أى أنني أمارس التجريب وتعلم لغة أى سلطة جديدة. وحينما أكتب فأنا أعي حجم وقوة وضعف كل المفردات. اكتب عبارة ولا أكتب فقرة. لذلك هنالك شيء من التجريب "أرض النسيان" نص تجريبي كامل كما "على ضفاف الجنون"، ذلك النص الذي كتبته في أوائل الثمانينات، وأعتقد أن الكثير فيما بعد كتبوا على هذا النسق. العبارة السريعة الحادة المشبعة بالصور. وقبل أن يكتب الكثير من شعراء قصيدة النثر. وحينها أتذكر أن الكثيرين قالوا أنك تجرب شيئاً لا نعرفه كأنك تكتب بالفرنسية. قلت: أنا لا أكتب بالفرنسية، بل أكتب بالعربية، ولكن بنحت مختلف، شخصي ذاتي للغة. لذلك لا أوافقك الرأي بأني ابتعد عن التجريب. كما أن أغلب قصصي ورواياتي بها أحداث تتعلق بازدواجية المكان والزمن وهذا شيء جديد في الأدب تجدين ذلك في "القارئ البغدادي".
طائر ليلي
· تقول في قصة " كيشكانو" أن شجرة الحياة قد قطعت. فهل هذا يعني بوجود قطيعة الآن ما بين العراق و أبنائه، نظراً لما حل به من نكبات؟
- الرموز تتحمل دلالات كثيرة. كتبت عن الشجرة الموجودة في البصرة والتي سميت بشجرة آدم، وهناك أساطير كثيرة حولها تقول أنها أقدم شجرة في العالم وزرعها آدم في منطقة اسمها القرنة في شمال البصرة. استفدت من هذه المقارنة. حيث أن شجرة الحياة التي كانت في العراق وكانت النساء يأتين ويتباركن بها. ويضعن حولها الحناء وينذرن لها النذور. سمعت أن هذه الشجرة قد جفت وماتت خلال الحرب الإيرانية العراقية. وبالنسبة لي أيضاً شجرة الحياة قطعت. هذه العلاقة التي كانت بينى وبين العراق، وبعد مرور 20 عاماً من المنفى شعرت أنني تماماً كائناً آخر. وأن كل شيء يتعلق بالعراق أصبح بعيداً كأنه آت من زمن سحيق. وكأنه ما قبل التاريخ. شجرة حياتى العراقية قد قطعت. أنا الآن لست بعراقى.. أصبحت فرنسياً عندما أنهض لأني أتحدث بالفرنسية وأقول بونجور لزوجتي، وللقطط وللحديقة. ثم يرن الهاتف وكثيراً ما تأتيني مكالمة من إيطاليا فأتحدث الإيطالية. فأصير إيطالياً. في الظهيرة أصير مكسيكياً لأني أقرأ في المكسيك أو أتحدث مع صديق مكسيكي. وفيما بعد الظهيرة أتحول لمصري إذ أتلقى مكالمة من مصر أو أقرأ كتاباً مصرياً. وفي المساء أصير أرجنتينياً. وفي الليل وحينما أضع رأسي على الوسادة وأغفو وأبدأ بالحلم أصير عراقياً. فأنا طائر ليلى عراقي. وفي النهار العراق في غاية البعد. لأنه مكان رأيته في الحلم وتلاشى، لكنه يعود في الليل فقط. تعود الذكريات والأصدقاء. تعود عطور الأشجار والورد، قداح البرتقال ورائحة النارنج، و زهرة الجوري لتملأ الأنف. تعود ورائحة أمي. كل هذه الأشياء تعود بالليل بعد أن ينام الجميع و تهدأ الغابة التي تحيط بي. أصير عراقياً وحيداً. و أنا وحيد منذ 41 عاماً وهذا أقسى شيء.
· تكتب الشعر والقصة والرواية، بجانب القيام بالترجمة، فكيف تجد ذاتك بين هذه الأجناس المختلفة؟
- جمهورية الأدب واسعة لا تعترف بالحدود، هي ربما هي الجمهورية الوحيدة في عالمنا المعاصر التي لا تعترف بالحدود السياسية أو اللغوية. الأدب حرية كاملة. يكاد يكون حرية مطلقة خصوصاً في وعي الكاتب، أكثر مما في وعي القارئ، لأنه محدد بظروف اجتماعية أما الكاتب فهو غير محدد بأي سياقات وقواعد. بل يتنقل من حديقة إلى أخرى. طالما يمتلك ناصية الكلمة فهو قادر على أن يعبر. الكاتب هو تعبير عن العالم والمجتمع واللغة والوعي. في هذه التعبيرات المختلفة فان الكاتب ينتقل من الشعر، القصة إلى الرواية أو المقالة، الرسم، النحت. ليس هناك حدود للأدب. هذا من ناحية، ومن الناحية الثانية أجد أن فكرة تحديد الكاتب بنمط معين هو سجن، نوع من المصادرة لحرية الفن عموماً. نحن نعيش مرحلة ما بعد الحداثة منذ زمن طويل في أوروبا. حيث ألغيت الحدود والمسافات بين الأنواع الأدبية. وللأسف ما زلنا في بعض أدبنا العربي نكتب منطلقين من فكرة الأغراض في الشعر العربي، مثل المديح والحماس والرثاء إلخ. هذه أفكار تمُت إلى تاريخ سحيق. نحن الآن في مرحلة تجتمع فيها الأشياء في نص واحد. القصيدة يمكن أن تكون مسرحاً. والمسرح يمكن أن يكون شعراً أو سرداً ويكون أيضاً خطبة. وهذه التعبيرات قائمة بشكل فعال في الثقافة الأوروبية. و أيضاً في الثقافة العربية. حتى حينما نقرأ أدونيس قبل 40 عاماً. كتب "المسرح والمرايا". لا أؤمن بالنمطية الكلاسيكية التي تفصل بين الأنواع، أنا رجل وامرأة في نفس الوقت. وكل واحد منا هو رجل وامرأة بداخله. هو حي وميت. الأدب كذلك. هو فيه أكثر من ازدواجية في نفس الوقت. ينبغي الابتعاد عن وضع قوانين صارمة في الأدب. الأدب حرية، فضاء مفتوح على كل شيء. يمكنه أن يتوغل في الدين أو الأسطورة، في الحياة الجنسية أو الروحية. هو المرأة الحقيقية لتطور المجتمعات البشرية. لذلك حينما يسافر شخص لبلد بعيد يذهب للبحث عن رواية أو كتاب أدبي لكي يقرأ لشاعر من هذا البلد لكي يعرف روح هذا البلد فالأدب روح المجتمع.
ضيف عابر
· هناك إلحاح دائم في كتاباتك على الطفولة وذكرياتها التي تسكنك.. ألم تعش طفولتك بالشكل الذي كنت تبتغيه؟
- أنا مازلت طفلاً، وأرفض أن أغادر الطفولة. في كل مرة أقول لها وداعاً إلا أنها تصر على مرافقتي. متشبثة بأذيالي، بجسدي وعيني. الطفولة شيء أساسي في حياة كل إنسان. نحن استمرار للطفولة كما الكتاب استمرار للعقل. الطفولة مكملة للحياة وبدونها نصبح تعساء في غاية الجدية. نميل إلى السلطة والمال وسطحية الحياة. الطفولة هي أعمق شيء فينا. عشت طفولة في غاية السعادة بسبب موت الطفل الذي يسبقنى. كان الجميع يحبونني في العائلة وخارجها. لأنهم كانوا يعتبروننى ضيفاً عابراً قد يموت في أي لحظة كما مات من سبقه. فكنت محط اهتمام العائلة. لم أنم بمفردي حتى تركت العراق رغم وجود غرفة خاصة بي. وخروجي من العراق كان مأساة كبيرة في عائلتي. خاصة أن هذا الخروج كان سريعاً ومفاجأة للجميع، فالهرب من العراق تم في ثلاثة أيام وكأنني مُت، وكنت بالنسبة لعائلتي ميت بهذا المعنى. لأنى لم أرهم إلا بعد 27 عاماً، ثم أنني دخلت في تابوت المنفى. المنفى أيضاً نوع من الموت الذي علينا أن نبذل جهداً كبيراً للاستيقاظ منه. لكي نبعث من جديد في الحياة، لكي يعود الزمن لنا، لكي نألف المكان واللغة. المنفى ولادة جديدة. وحدثت لي بعد العشرين هذه الولادة. لأني تعلمت من جديد اللغة واستيعاب المكان والزمن، خلق أصدقاء وذكريات بلغة أخرى. بديكور آخر في مكان بعيد. ولدت في العراق حيث تتعدد الألوان في الصيف والشتاء. ثم وجدت نفسي في مكان يعم فيه الاخضرار في كل الفصول. فهذا تغير كبير. كان ولادة حقيقية ثانية. وشأن أي وليد كان علي أن أعيد ترتيب العالم من جديد. ترتيب طبقات الوجود، وعلاقتي مع الكون والروح ومع البعيدين عني. لذلك عندما عدت للعراق بعد 27 عاماً. لم أجد شيئاً. لأن العالم الذي تركته تغير وتهدم. أمي وأبي ماتا، أصدقاء كثيرون ماتوا في خضم هذه الحروب الطويلة التي لم تنتهِ حتى اليوم. تغيرت الخرائط. تصعق البنايات وتعُصف بالشوارع، هذه الريح العصفة التي تهب من زمن طويل في البلد لم تترك لي حتى ذكرى. لذلك تبقى الطفولة هي الملجأ الجميل الوحيد الذي يعيد الثقة بالنفس. يعيد ترف الحياة الجميلة. فالطفولة ترف، في الطفولة لا نتصور الموت أو تعقيد الحياة. في الطفولة يبدو لنا كل شيء جديد. كل قميص نلبسه يبدو هدية كبيرة، كل إشراقة شمس تبدو في غاية السحر. لأننا لم ندخل بعد في العادة، فالعادة كما يقول كازانتاكى تجعل من الخمرة ماء لا تسُكر. فإن الطفولة سكرة حقيقية.
حكم مع وقف التنفيذ
· نلحظ تكراراً لمفردة "الموت" في الكثير من نصوصك، فما السبب؟
- أنا مرتبط بحالة سيكولوجية منذ طفولتي. ولدت بعد موت طفل عاش 40 يوماً ثم توفي. وهذه أول مرة أكشف عن هذا الأمر. لذلك سُميت بـ"جبار" وهو يبدو اسماً غريباً لكي أجبر بخاطر أمي التي فقدت هذا الوليد. عندما بدأت أعي العالم كنت أسمع أشياء كثيرة عن هذا الصديق الذي لم أره. ولكنه رافقني منذ أن بدأت في الوعي وإلى اليوم يرافقني وهو ميت. أخذت مكانه في الحياة، فعلاقتي مع الحياة مضطربة انطلاقاً من فكرة موت هذا الآخر. عشت دائما كأنني في إجازة من الموت. وكأن الموت سيأتيني في كل لحظة لأنى سرقت حياة طفل آخر. عشت دائماً على هامش الحياة وما زالت. رغم أني موغل جداً في الحياة. حيث أمارس الكتابة والزراعة وأسافر كثيراً وأرسم وأنحت. أحاول أن أجعل كل دقيقية من حياتي مليئة بالمحبة والصداقات. لا أؤمن بالفراغ. أحاول ملء الفراغ الذي هو الموت بالنسبة لي. أؤمن بأني يجب أن أعيش الحياة بكل نرجيسيتها وزخمها واجتماعياتها. أحب كل الأشياء الموجودة. أؤمن بأن لكل شيء له حياة. لذلك تسكنني دائماً فكرة الموت لأني أعتقد أنني في إجازة من الموت. وإنني في حالة حكم مع وقف التنفيذ.
· لماذا استحوذ التراث على باع كبير في إبداعك؟
- التراث الإنساني وليس العراقي فقط. ما يهمني في التراث هو الدرس الذي يمنحنا إياه. التراث والتاريخ الثقافي. يعطينا دروساً نتعلمها أحياناً ولا نشعر بها أحياناً أخرى. التراث يكون جميلاً حينما نجيد النظر إليه بين حين وآخر دون أن نجعله يتلبسنا، أو نتعلق به أو نجعل به مقدساً. التراث هو الماضي، وهو ما صنع الكثير من الحاضر. على الأقل ثقافتنا العربية والتي هي مزيج بين نتائج التراث والحداثة الغربية. أهتم بالتراث محاولة لكشف أمراض الحاضر. والحنين للحاضر. بنية العقل الذي نفكر فيه. نحن محكومون بالأسطورة. سواء في العراق أو في مكان آخر. وما زلنا نعيش أسطورتنا ولكن العالم يخلق أساطير كل يوم. حتى الحداثة خلقت أحاديث لها. فالفرنسي له أساطير كثيرة من بروست إلى جان بول سارتر وغيرهم وكذلك نحن.
صاحب النصين
§ قمت بترجمة وتنقيح بعض أعمالك إلى الفرنسية بعد سنوات من نشرها بالعربية. فماذا عن هذه التجربة؟
- هي ليست ترجمة، ولكنها إعادة كتابة. أنا صاحب النصين الفرنسي والعربي. و طالما أنا من يعيد الكتابة فهذا يرتبط بموضوعين. موضوع القارئ الآخر، وموضوع تطوري الشخصي. حينما أنجز كتاباً بالعربية ثم أقوم بترجمته بعد عام للفرنسية. فأنا خلال هذه الفترة أكون تطورت وأصبحت لي نظرة أخرى فأجد أن هناك بعض الخلل في النص فألغي هذا الخلل وأعيد كتابته. فيصبح نصاً آخر خارجاً من النص الأول. وهذا جزء من لعُبة الكتاب والتي بها شيء جميل. نوع من اللعب يذكرنا بالطفولة. وكما قلت فانا مازلت طفلاً رغم أني أصبحت في الستين من العمر.
حرية القارئ
§ ولكن ألا يعُد ذلك خيانة للنص؟
- حينما يتعلق الأمر بتوسيع حرية الكاتب في النص فلا يعتبر خيانة. الخيانة موجودة في العلاقة الزوجية والصداقة بين الناس. حتى الترجمة ليست خيانة، فالخيانة مفهوم أخلاقي وليس مادياً. ولكنها نوع من الكذب الأبيض على القارئ، إذا جاز التعبير. هي ترميم النص. نحن لا نخون البيت حينما نجدده كل عدة أعوام. عندما نعيد طلاء الجدران أو نغير محتوياته. كما أؤمن بأن للنص تأويلات بعدد القراء، النص ليس واحداً ولكنه متعدد وكلما ازداد عدد القراء كلما ازداد تأويل النص. والنص عندما ينشر فإنه يصبح مشاعاً. لقد تلقيت رسائل من القراء يقترحون فيها أنه لو كان الأمر هكذا.. فأقول لهم معكم حق كان يمكن أن يكون هكذا ولكنى كتبته بالطريقة هذه ويمكنكم أن تكتبونه إن شيءتم بالطريقة التي تريدونها.. هذه حرية القارئ.
· العمل الذي لا يحتوي على ذاكرة يموت سريعاً. فإلى أي مدى حرصت على وجود الذاكرة في أعمالك؟
- أنا أيضاً ذاكرة. أتذكر كل شيء. خصوصاً في سنوات الطفولة وما تبعها. العمل الأدبي هو ذاكرة. نحن نتفنن في إعادة صياغة ذاكراتنا الإنسانية. فنخرج في هذه الذاكرة ما هو مدفون بها. كل ذاكرة هي كنز. نحن نستخرج هذه الكنوز بما فيها من فضة و أحجار كريمة. والذاكرة هي زمن ونحن لا نستطيع أن نكون خارج الزمن. ودائما نحن في رحلة الزمن في البحث عن الكنز المفقود.