في الحقيقة، لا أعرف من أين أبدأ مشوار حديثي عن هذا الأديب العملاق.
حقاً يعد الأستاذ سليمان الحزامي أديباً عملاقاً بكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالات، فهو أديب يعدل آلاف الأدباء، وهو إنسان يُوزَن بأمة كاملة.
في البداية وقف قلمي حائراً عند الكتابة عن جوانب من شخصية هذا الأديب الأريب؛ لأن له من الخلال ما يُعجِز القرائحَ عن الإفصاح بها، وله من الصفات ما تستنزف الأقلام في التعبير عنها، فهو أديب، متواضع، شهم، كريم، مقدر لذاته، يحب الخير لغيره، صاحب مدرسة سامقة في فنه وخلقه.
والحديث عن الأديب الراحل الأستاذ/ سليمان الحزامي متشعب متشابك، يُحيِّر من يريد الكتابة عنه؛ لأن كرائم أخلاقه وبديع أدبه من العسير أن يُختزل في هذه الصفحات القليلة؛ ولكن سأختصر الحديث عن هذا الأديب المغوار من خلال محورين أساسيين أحاول من خلالهما أن أقطف من بستان حياته الرائع بعضاً من قطوف مسيرته الأدبية، وسيرته الخلقية.
المحور الأول: مكانته الأدبية
يعد هذا الرجل ــ من وجهة نظري ــ أديباً عملاقاً حاذقاً؛ لأنه كتب في لونين من ألوان الأدب: المسرح، والقصة القصيرة، وبلغ بهما القمة. فهو كاتب مسرحي، ورائد في هذا الدرب، لأنه يعرف كيف يبني عمله المسرحي بناء فنياً رائعاً، عرفتُ ذلك من خلال أعماله المسرحية الكاملة التي طُبعت في أربعة أجزاء، كل جزء يضم ثلاث مسرحيات (الناشر/ مكتبة الكويت الوطنية ) عندما أهداني إياها في مقر رابطة الأدباء الكويتيين.
بدأ نشر أعماله المسرحية في أواخر الستينيات من القرن الماضي، حيث نشر أولى مسرحياته بعنوان ( مدينة بلا عقول ) عام 1969م وهي من ثلاثة فصول، ثم مسرحيته (القادم) عام 1978م، وفي العام نفسه، نشر مسرحيته (امرأة لا تريد أن تموت ) عام 1978 م (منشورات دار ذات السلاسل).... وغيرها من المسرحيات فهو كاتب مسرحي محترف، ترجمت له بعض الأعمال المسرحية إلى لغات أجنبية مثل اللغة الإسبانية، ونوقشت بعض أعماله المسرحية في بحوث علمية منها على سبيل المثال: الرمز والإيحاء في الأدب الكويتي المعاصر - مسرح العبث لسليمان داود الحزامي نموذجاً - د. صلاح الدين سليم أرقه دان أستاذ الدراسات العربية في جامعة الخليج وهناك دراسة أخرى بعنوان الخطاب السياسي في مسرح سليمان الحزامي، بحث لدرجة البكالوريوس من المعهد العالي للفنون المسرحية،الطالبة رجاء فايق العياض 2001م-2002م وبإشراف د. عطية العقاد.
وأما عن أعماله القصصية فمجلة البيان التي ترأس تحريرها خير شاهد على كثرة إبداعه القصصي ونضجه وغزارته.
كان يرتجل بعض قصصه ارتجالاً، كنت معه (رحمه الله) في جلسة بمقر مجلة البيان، وفجأة طلب من أحد الموظفين معه بالمجلة أن يكتب ما يمليه عليه، وكان يتقمص أدوار شخصيات قصصه عندما يتحدث بلغة كل شخصية منها، وكان لا يحب أن يقاطعه أحد وهو في هذه الحالة حتى يفرغ من الكتابة. وبعد الانتهاء سألته: لماذا تكتب وأنت في هذا الجو غير الأدبي ؟ أجابني قائلاً: فكرة خطرت ببالي لبناء قصة قصيرة جديدة أردت أن أقيدها بالكتابة.
ويعد الأستاذ / سليمان الحزامي أديباً عملاقاً، لما رأيته من جلده واحتماله، وعزيمته القوية التي تفوق صلابة الفولاذ، ظهر ذلك جلياً بعد أن فقد حبيبتيه (عينيه) وهو صابر محتسب لم يكلّ ولم يفتر عن الكتابة، ومواصلة النشر، وترؤسه لمجلة البيان، واستمرار تقديم برنامجه الإذاعي الأسبوعي (همس القلم) في إذاعة دولة الكويت، والذي شرفت باستضافته لي في حلقتين متواليتين من هذا البرنامج الهادف.
فاستمرار عطائه ( رحمه الله) في هذه الأعمال الإذاعية والإبداعية، إضافة إلى ترؤسه لتحرير مجلة البيان يُعد أصدق دليل على أن هذا الرجل لم يكن رجلاً عادياً، ولا أديباً خاملاً، بل كان أديباً عملاقاً من خلال عطائه المتدفق، وإبداعه المتواصل.
إضافة إلى ذلك أنه كان أديباً متواضعاً يرغب في نشر العلم وإفادة غيره، دعوته لأكثر من لقاء أدبي في مدارس الكويت على اختلاف مراحل تعليمها، فلبى دعوتي وذهب معي لأكثر من أصبوحة أدبية، إحداها في مدرسة مسعود بن سنان المتوسطة بنين، والثانية: بمدرسة فاطمة الصرعاوي الثانوية بنات، والمدرستان بمنطقة حولي التعليمية، والثالثة: مدرسة خاصة ابتدائية بالجهراء. وكان أديبا رائعاً سخياً معطاءً يحب الضحك ويميل للتفاؤل في كل لقاءاته السابقة، وكان يجيد فن الحوار والتعامل مع الكبار والصغار بكل حنكة واقتدار.
المحور الثاني: مواقفه الإنسانية
لقد تربّع الأستاذ / سليمان الحزامي (رحمه الله) على منصة الإنسانية كما بدا لي، ولكل من تعامل معه في الحقل الأدبي، فمنذ أن عرفت هذا الأديب وجدت أمارات الإنسانية بادية على صفحات وجهه، وفي درر منطقه، لقد تجسدت الإنسانية في أديبنا الراحل بكل معانيها من خلال أقواله وأفعاله.
دعوني أسرد لكم بعضاً من مواقفه الإنسانية التي عشتها معه، لم أقصد بذلك الحديث عن نفسي بل أردت أن أكون شاهد عيان على إنسانية هذا الأديب الراحل.
لن أنسى أبداً أنه كان يعاملني معاملة الأب لأبنائه، وكنت أبادله نفس الشعور. كنت دائما ما أقول له: أنت أبي الروحي في الكويت يا أستاذ/ سليمان، لما أراه من لطف معاملته بي.
فعندما تعرفت عليه في مقر رابطة الأدباء الكويتيين أخذ بيدي وقادني إلى ديوانية الرابطة على الرغم من رفضي في بداية الأمر؛ لأنني أكره حب الظهور والتسلق والتملق، فلم أحب أن أفرض نفسي على غيري، فذهبت معه بعد إلحاح ونصح وعرفني على كبار أدباء الكويت منهم على سبيل المثال لا الحصر: د/خليفة الوقيان، د/ سليمان الشطي، والشاعر الأستاذ/ يعقوب السبيعي، والأستاذ/ عبدالله خلف، والأستاذ/ طلال الرميضي، والأستاذ/ صالح المسباح وغيرهم.
طلب مني مراراً أن أذهب معه إلى منزله الكائن بالجابرية وكنت أعتذر له بلطف، وذات يوم أخبرني بأن سائقه حدث لديه ظرف لم يستطع الإتيان فذهبت معه لبيته بسيارتي وهناك أقسم أن أنزل معه ليريني بيته ومكتبته، وفي مكتبته صرّح لي بأنه فعل تلك الحيلة حتى يجبرني على معرفة عنوان بيته، ورؤية مكتبته، وهذا من إنسانيته.
ومن إنسانيته معي أيضا أنه كان دائما ما يشجعني على مواصلة طلب العلم، وتأليف الشعر، وكلما اعتراني خطب من تصرفات بعض أعداء أهل العلم، وتجاهلهم لمكانة العلماء أخذ بيدي وقصّ لي قصة واقعية من تاريخ حياته فيهدّئ بها من غضبي وحزنًي، ويفتح بها أمامي الأبواب الموصدة.
لم تقف إنسانيته معي على رابطة الأدباء بل امتدت إنسانيته إلى خارج الرابطة حين طلب مني أن أصطحبه في أكثر من أمسية أدبية في أماكن متنوعة خارج رابطة الأدباء الكويتيين، وأخذ يعرفني على الحاضرين في كل أمسية حتى تتسع دائرة معارفي العلمية والأدبية.
فمواقف أستاذنا الراحل الإنسانية معي لا حصر لها، وأختم بموقف إنساني رائع يدل على أن إنسانيته فطرية غير متكلفة، كنت أزوره في بيته في مرضه الأخير وفي كل مرة يصر على حسن ضيافتي بالرغم من ألمه وتوجعه، وذات مرة سألني بعد أن هممت بالانصراف في نهاية الزيارة قائلاً: هل معك سيارتك ؟ أجبته على الفور: نعم، سيارتي بالخارج. سألته: هل تريدني أن أصطحبك معي لخارج المنزل ؟ أجابني: لا، ولكن كنت أريد أن أخبر السائق كي يوصلك إلى مكانك. قلت له: بارك الله فيك، عندي سيارتي.
كان رجلا صاحب ذوق رفيع، وإنسانية أصيلة لم يتخلّ عن إنسانيته وهو في أحلك الظروف وأصعب المواقف.
وفي نهاية المطاف لم أستطع أن أكفكف دموعي التي انهمرت على وجنتيّ وفاضت على الأوراق فاختلط الحبر بالدمع فكادت الكلمات تذوب من وجه الصفحات، وكاد قلبي ينخلع حزناً على هذا الأديب الإنسان البطل الذي إن كان التراب وارى جثمانه فسوف تظل كلماته ومواقفه ومؤلفاته شاهدة بعبقريته الأدبية، ومخلدة لمواقفه الإنسانية أبد الدهر.
وأرى أنه من ثمار إنسانيته فينا أن أتمثل لفراقه بأبياتي هذه؛ لأنها تمثل عنوانا يسطر فداحة الخطب، وحرقة الفؤاد:
أرحَـْلــــتَ عــــــنا دونَ لحـــــظ وداع... وتــركتــنا فـــي اليم دون شــراعِ
لمَّــا نعـَــى الناعِـــي بفقـــد حبيبـــــنا... فكأنها الــجمراتُ في الأسمــــاعِ
ورحـلـــتَ عـــنا فجــــأة فــي خلســةٍ... فأصـــبتنا بالسُّـــقْمِ والأوجــــاعِ
قد كــنتَ تحملُ في الــجوانحِ مــضغةٍ... ما ُلــوِّثتْ بالحقــــدِ والأطمــــاع
وحـــباك ربــُّـكَ بالبشـــاشـــةِ كلِّــــها... فربحْتَ حـــبَّ الــناسِ بالإجمـاعِ
قــد كـــنتَ ســــبَّاقا لكـــلِّ فضــــيلـــةٍ... وإلى المحبةِ كنت أفضــلَ داعـي
ووصــلتَ أرحــامـــا تــباعدَ وصــلها... ونشــرت علما فــي عـديـد بقاع
هــذا لســـانكَ ظـــلَّ عـــــوداً عـــازفاً... والـيوم يصمتُ هـــابطَ الإيقـــاع
أبصرتُ فوقَ النعش جسمك مــسرعاً... للجــــنةِ المفـــتوحةِ الـمصــراعِ
وَصُــليتُ جمْـــرَ فـــراقكم متلظـــــيـاً... فالفقد نــارٌ أحــــرقَتْ أضلاعــي
هـــذى الحـــياة فــلا أراهـــا غايــــةً... كالوهم تُقضَى أو كسَقْطِ مــــتاعِ
إنْ كـــنتُ قد أبطــأتُ في تــوديعـكــم.... هذا رثائــي ناطـــــقٌ بوداعِــــي
وفي الختام، الله أسأل أن يتغمد أستاذنا الراحل ا/ سليمان الحزامي بأوسع الرحمات، ويسكنه الفردوس الأعلى جزاء صبره واحتماله، وأن يشمله بعفوه وغفرانه فهو نعم المولى ونعم النصير.