أبو الطيب المتنبي في سطور
ذات صبيحة من عام 303 للهجرة استيقظت إحدى قرى الكوفة على ولادة طفل سيكون له شأن عظيم في الشعر، بل سيكون من أعظم شعراء العربية إن لم يكن أعظمهم بالفعل. اسم ذلك الطفل أحمد بن الحسين بن الحسن الجعفي الكندي.
وقد عُرف بعد ذلك بلقبه الشهير أبي الطيب المتنبي.
كانت شخصية المتنبي متقاطعة مع شعره.. وقصائده انعكاس حقيقي لشخصيته بما تنطوي عليه من جرأة وشجاعة وطموح لا محدود رغم أن معظم أشعاره كانت مدحيه في عنوانها العام إلا أنها امتلأت بالصور المبتكرة والحكمة المتوقدة والخيال الواسع والمعرفة الشاملة، عاش أبو الطيب مرحلة تفكك الدولة العباسية وتحولها إلى دويلات مستقلة بذاتها- وكان غاضباً على الوضع السياسي المضطرب وعبر عن ذلك في شعره.
نزل المتنبي ضيفاً مكرماً وشاعراً مقرباً لدى العديد من كبار الأمراء والولاة، منهم بدر بن عمار حاكم طبرية، وعضد الدولة حاكم خراسان. بيد أن أجمل أيام عمره عاشها شاعراً وصديقاً لسيف الدولة الحمداني أمير حلب، وكان المتنبي يرى فيه حلمه المفقود.
فقد كان سيف الدولة الأمير الوحيد في زمنه الذي قاتل الروم دفاعاً عن الأمة الإسلامية وتأميناً لحدودها الشمالية.
كان المتنبي متبحراً في علوم اللغة العربية وخبيراً بغرائب كلماتها ودقائق معانيها، وقد استفاد من مخالطة الأعراب فترة من الزمن استفادة كبيرة حيث تعرف على الكلمات العربية الصميمة غير المستخدمة بين عرب الحواضر ووظفها في بعض قصائده.
وكان يفرض على ممدوحيه اشتراطات لا يجرؤ شعراء عصره على اشتراطها، فهو لا ينحني انحناءة الخضوع لممدوحيه ولا ينشد شعره إلا جالساً.
كتب عنه الكثيرون من النقاد القدماء والمعاصرين. وأشهر ما قيل عنه: "جاء المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس".
كان عام 354 للهجرة العام الأخير في حياة المتنبي، إذ ترصد له فاتك الأسدي ومعه رجال كثر بالقرب من دير العاقول غربيَّ بغداد، وكان أبو الطيب قد هجا ابن أخت فاتك هجاءً شديداً، فقتله بدافع الانتقام وقتل مرافقيه ومنهم ابنه الوحيد "محسد".
غاب أبو الطيب المتنبي روحاً وجسداً - لكنه ظل شعلة إبداعية أبدية الاتقاد في ذاكرة الأمة.. فهو "أسطورة" الشعر العربي يتوارثها الجيل بعد الجيل على امتداد الأزمنة.
أبيات المتنبي
بأبي الشُّموسُ الجانِحاتُ غَوارِبَا
المُنْهِباتُ عُقُولَنَا وقُلُوبَنَا
النّاعِماتُ القاتِلاتُ المُحْيِيَا
حاوَلْنَ تَفْدِيَتي وخِفْنَ مُراقِبا
وبَسَمْنَ عَنْ بَرَدٍ خَشيتُ أُذِيبُهُ
يا حَبّذا المُتَحَمّلُونَ وحَبّذا
كَيفَ الرّجاءُ منَ الخُطوبِ تخَلُّصاً
أوْحَدْنَني وَوَجَدْنَ حُزْناً واحداً
ونَصَبْنَني غَرَضَ الرّماةِ تُصِيبُني
أظْمَتْنيَ الدّنْيا فَلَمّا جِئْتُهَا
|
|
اللاّبِساتُ مِنَ الحَريرِ جَلابِبَا
وجَناتِهِنّ النّاهِباتِ النّاهِبَا
تُ المُبْدِياتُ مِنَ الدّلالِ غَرائِبَا
فوَضَعْنَ أيدِيَهُنّ فوْقَ تَرَائِبَا
من حَرّ أنْفاسي فكُنْتُ الذّائِبَا
وَادٍ لَثَمْتُ بهِ الغَزالَةَ كاعِبَا
منْ بَعْدِ ما أنْشَبنَ فيّ مَخالِبَا
مُتَناهِياً فجَعَلْنَهُ لي صاحِبَا
مِحَنٌ أحَدُّ منَ السّيوفِ مَضارِبَا
مُسْتَسْقِياً مَطَرَتْ عليّ مَصائِبَا
|
تحليل الأبيات
بأبي الشُّموسُ الجانِحاتُ غَوارِبَا
|
|
اللاّبِساتُ مِنَ الحَريرِ جَلابِبَا
|
"بأبي" تفدية تنم عن المكانة العالية للمفدي.. يصف الشاعر النسوة اللاتي مر بهن وهنّ مرتحلات أو ذاهبات إلى مكان ما: يصفهن بالشموس كناية عن إشراق جمالهن - ويراهن شموس جمال يجنحن إلى المغيب/ الرحيل.
كما أنهن يلبسن "جلاببا" الثياب الحريرية كناية عن حياة الترف والدعة التي يعشن فيها.
المُنْهِباتُ عُقُولَنَا وقُلُوبَنَا
|
|
وجَناتِهِنّ النّاهِباتِ النّاهِبَا
|
هن يمنحن "وجناتهن" حرية النهب للعقول والقلوب، وربما يقصد الشاعر بالوجنات الوجوه إذ يُستدل على الكل من خلال الجزء.
"الناهبات الناهبا" تنهب الفارس القوي الذي ينهب أرواح الأعداء في الحرب. أو الرجل الذي ينهب إعجاب الآخرين بقوة شخصيته وسعة حكمته. ومفردتا "المنهبات - الناهبات" ترسمان لمحة جمالية لفظية في هذه اللوحة الشعرية.
النّاعِماتُ القاتِلاتُ المُحْيِيَا
|
|
تُ المُبْدِياتُ مِنَ الدّلالِ غَرائِبَا
|
"الناعمات" ولم يقل الفاتنات أو المدهشات.. ذلك أن النعومة يفترض أن تكون الصفة المشتركة بين كل النساء بينما تتفاوت مستويات جمالهن.
رغم أن جمال الروح هو الجمال الأسمى. وقد يستثقل القارئ مفردة "القاتلات" في سياق جملة شعرية غزلية، قاتلات لروح الأمل بسلاح الجفوة والمماطلة، لكن سرعان ما يظهرارتياح القارئ حين يقرأ بعدها "المحييات"
محييات لأرض الفؤاد بمطر الوصال والرضا.. وهن يبدين "غرائبا" ألواناً جديدة من الدلال يتميزن بها عن سواهن من الفتيات ويتجلى المشهد الجمالي في تجاور مفردات جمع المؤنث السالم بصورة إيقاعية الانسياب كما يبدو فن الطباق بين كلمتي "القاتلات، المحييات" باعتبار القتل إماتة.
حاوَلْنَ تَفْدِيَتي وخِفْنَ مُراقِبا
|
|
فوَضَعْنَ أيدِيَهُنّ فوْقَ تَرَائِبَا
|
لو كان المتنبي مجهولاً لدى أولئك الفتيات لما حاولن تفديته تعبيراً عن الإعجاب أو إظهاراً للمحبة. حاولن تفديته بالكلمات إلا أن خوفهن من أعين المراقبين جعلهن يضعن أيديهن على صدورهن "ترائباً" إما توجسَّاً فجائيَّاً من الرقيب وهكذا فعل المرأة حين يداهمها الخوف، أو إشارة إلى التفدية ومكانها القلب- فهن يفدينه بقلوبهن.
وقول الشاعر "ترائباً" وهي مجرورة بالفتحة نيابة عن الكسرة لإنها ممنوعة من الصرف فمن النادر جداً أن يوظف المتنبي الممنوع من الصرف كقافية بهذه الصيغة الإعرابية.
وتكرار حرف الفاء في كلمات هذا البيت جاء موفقاً إذ زاد من انسيابية الألفاظ وسهولتها في النطق.
وبَسَمْنَ عَنْ بَرَدٍ خَشيتُ أُذِيبُهُ
|
|
من حَرّ أنْفاسي فكُنْتُ الذّائِبَا
|
ابتسمن عن أسنان شديدة البياض والصفاء هي البرد بذاته، ولم يقل كالبرد.
شعراء كثر وصفوا أسنان المرأة بالبرد إلا أن أبا الطيب لم يقف عند هذا الوصف المتداول، بل ابتكر معنى شعرياً مدهشاً، إذ خشي أن يذيب/ يحرق هذا البرد بأنفاسه الملتهبة شوقاً ووجداً، لكن هو الذي ذاب في احتراقه الوجداني وليس البرد الذي هو كناية عن بياض الأسنان وصفائها، في هذه الجملة الشعرية اللون "البرد"، والصوت "أزيز الأنفاس" والحركة "فكنت الذائبا".
يا حَبّذا المُتَحَمّلُونَ وحَبّذا
|
|
وَادٍ لَثَمْتُ بهِ الغَزالَةَ كاعِبَا
|
"يا حبذا" بمعنى أحب هذا.
هو يحب كل ما يتعلق بمحبوبته الشابة "كاعبا" من بين تلك النساء.
يحب "المتحملين" أهلها، الوادي الذي التقاها فيه ويصفها بـ"الغزالة" الشمس كناية عن جمالها المشرق، ولربما أراد الشاعر وهو المهووس بالأسفار أنه يتحمل السفر في كافة الظروف المناخية، فيتعرض وجهه لحرارة الشمس "الغزالة" وكأنه يقبلها وهي شمس "كاعب" في بدء شبابها أي توهجها وقت الظهيرة.
كَيفَ الرّجاءُ منَ الخُطوبِ تخَلُّصاً
|
|
منْ بَعْدِ ما أنْشَبنَ فيّ مَخالِبَا
|
هنا يباغتنا المتنبي إذ يخرج من حكايته مع النساء اللائي مرّ بهن في طريقه ويدلف بنا إلى فكرة أخرى مفاجئة - معاناته مع الخطوب - المصائب التي يكابدها.
يقول: هل ينفعني الرجاء في التخلص من الخطوب التي كبلتني ويتعذر الفكاك منها، فهي هاجمتني كما يهجم الطائر الجارح على طريدته.
وأنشبت فيَّ "مخالبها" أهوالها وشرورها ما يجعل احتمالية النجاة غير واردة - وتوظيف الشاعر كلمة "مخالب" كناية عن تحكم الخطوب به- وشبه استحالة التخلص منها.
أوْحَدْنَني وَوَجَدْنَ حُزْناً واحداً
|
|
مُتَناهِياً فجَعَلْنَهُ لي صاحِبَا
|
"أوحدتني" الضمير يعود إلى الخطوب التي عزلته عن غاياته ورغباته التي يحبها، وربطته بـ :"حزن واحد" قد يكون حزن الغياب أو حزن الفراق، هذا الحزن المتناهي في إيلامه وقسوته لم يفارقه وكأنه "صاحب" لا يغيب عنه، بيد أنه صاحب غير مرحب به.
وقوله "صاحبا" كناية عن ملازمة الحزن له بصفة مستمرة.
ونَصَبْنَني غَرَضَ الرّماةِ تُصِيبُني
|
|
مِحَنٌ أحَدُّ منَ السّيوفِ مَضارِبَا
|
تلك الخطوب جعلته غرضاً/ هدفاً للرماة "اليأس- ضعف القدرة- المعوقات المفاجئة"، لتصيبه محن هي أشد أو أحدُّ مضارباً من السيوف.
واختياره "السيوف" جاء دقيقاً وموفقاً إذ قد يخطئ الرمح هدفه وقد ينحرف السهم عن مرماه، إنما السيف في يد الشجاع قلما يضل طريقه نظراً إلى قرب المسافة بين الطرفين "السيف والهدف".
أظْمَتْنيَ الدّنْيا فَلَمّا جِئْتُهَا
|
|
مُسْتَسْقِياً مَطَرَتْ عليّ مَصائِبَا
|
هذه الدنيا بما فيها من طموحات وآمال جمة جعلت الشاعر يظمأ إليها ظمأً روحياً لا ظمأ جسدياً، فلما جاءها "مستسقياً" طامحاً- عازماً- مستعداً. أمطرته "مصائبا" العراقيل والمصاعب وغدر الناس- وصحيح أن المطر بشرى خير لا نذير سوء إلا أن أبا الطيب في قوله "مطرت، مصائبا" يقصد تتابع المصائب في الحصول مثل تتابع زخات المطر في الهطول.
وفي ذلك كناية جميلة لا تخفى.
استنتاجات التحليل النقدي
هذه الأبيات التي اجتهدنا في تحليلها نقديَّاً وهي الأبيات العشرة الأولى من قصيدة طويلة للمتنبي مدح بها علي بن منصور الحاجب، نقول هذه الأبيات دليل جليّ على أن أبا الطيب يجيد خلق القصيدة ذات الأسلوب السهل الممتنع سهل على المتلقي احتواؤها قراءةً وفهماً، ممتنع على الشعراء الإتيان بمثلها فكرة وتركيباً وللمتنبي أبيات كثيرة تتجسد فيها إنسيابية التعبير وبساطة الصياغة لكنها ظلت متلألئة بأقمار الشعر. ومن ذلك قصيدته في وصف شعب "بوان" والتي مطلعها:
مغاني الشعر طيباً في المغاني.. بمنزلة الربيع من الزمان.
وقوله في وصف الحمَّى:
وزائرتي كأن بها حياءً.. فليس تزور إلا في الظلام
وقوله :
"إذا أنت أكرمت الكريم ملكته .. وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا".
وأمثلة شعرية أخرى تؤكد تمكن المتنبي من العزف المتقن على أوتار الأساليب الشعرية المختلفة بالرغم من أنه ألَّف القصائد ذات التعقيد اللفظي والغموض المجازي كقوله:
"أحادٌ أم سداسٌ في أحاد.. لليلتنا المنوطة بالتنادي"
وقوله :
"فلما فقدنا مثله دام كشفنا .. عليه فدام الفقد وانكشف الكشف".
وما بين الأسلوبين السهل الممتنع والغامض المعقد، كثيراً ما يظهر المتنبي بأبياته الشديدة الجزالة، المحكمة البناء، الساطعة الحكمة مثل قوله:
"على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ.. وتأتي على قدر الكرام المكارمُ".
وقوله :
"ما كل ما يتمنى المرء يدركه .. تجري الرياح بما لا تشتهي السفنُ".
وكأن المتنبي تعمد كتابة الشعر بأنماط متعددة لتتواءم مع فهم القراء البسطاء والقراء المثقفين والنقاد المتخصصين، بينما يبقى القاسم المشترك بين تلك الصيغ المتنوعة هو التمكن الإبداعي.
ومن هنا تبلورت عبقرية أبي الطيب المتنبي الإنسان والشاعر والفيلسوف.