مجلة البيان

العالم الروائي في إبداع منى الشافعي

مقالات

العالم الروائي في إبداع منى الشافعي

بقلم: د. مصطفى عطية جمعة*

        عندما نتناول العالم السردي لمنى الشافعي، فإننا ننظر إليها كمبدعة في مجالات أدبية وفنية عديدة، فهي تكتب القصة القصيرة، والرواية، والمقالات، ولها تجربتها في الفن التشكيلي، بجانب نشاطها في الحياة الثقافية العامة.  

        وسنتناول في هذا المقال العالم الروائي لمنى الشافعي، والذي يندرج تحت ما يسمى " الرواية النسوية " هي السرد الذي تبدعه المرأة بشكل خاص، لتعبر فيه عن رؤاها كأنثى نحو الآخرين، ونحو ذاتها، ونحو الوجود والحياة.

        والرواية النسوية  تسعى إلى التعبير بمساحة واسعة عن أحاسيس المرأة ومواجعها وتصوراتها ورؤاها ورغباتها المكبوتة، والأحداث من وجهة نظرها، وأيضا إشكاليات وضعها الحالي، كما تسعى إلى التعبير عن قضايا المرأة العامة داخل المجتمع، وما يهمها في الحياة، ساعية إلى تأكيد وجودها، وتحقيق كيانها، وبلورة نظرتها بخصوصية سردية من خلال رصيد ثقافتها وتجربتها ورؤيتها للعالم والمجتمع.

        فللرواية النسوية دور كبير في تغيير المعرفة عن الآخر (للمرأة) وهو الرجل، فهي تقدم عالم الرجل كما تراه الأنثى، كما تقدّم نظرتها الأنثوية نحو ما تراه في العالم من حولها، من رجال ونساء وأحداث وقضايا وهموم.

        وهذا يتبدى من دراسة الخطاب السردي في إبداعات المرأة عامة، طرحا وأسلوبا وبنية، فالخطاب الروائي النسوي يأتي وفقاً لتعريف " فوكو " للخطاب عامةً الذي هو "شبكة معقدة من العلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تبرز الكيفية التي ينتج فيها الكلام كخطاب، وإن ما يحكمُ هذا الخطاب هو مجموعة من القوانين المؤثرة بشكل لا واع في صيرورة المجتمع ومنتجاته الثقافية وغيرها.

        ونبدأ برواية " ليلة الجنون " لمنى الشافعي التي تقدم لنا عالما رومانسيا عن مجتمع الجامعة الكويتي من خلال شخصية البطلة "سارة "التي هي نموذج للفتاة الطامحة إلى الاستقلال الذاتي، والتفوق العلمي والأكاديمي، فهي تكتب الشعر، وقد استعارت مقاطع شعرية من نصوص الشاعرة سعدية مفرح في ثنايا المتن الروائي، ونرى بين ثنايا الرواية الكثير من اللقطات عن الصراع بين الاتجاهات الفكرية والثقافية في المجتمع الجامعي : اليسار والإسلاميين والقبليين ونرى على ضفاف الرواية كثيرا من ملامح الجامعة، والخلافات الاجتماعية التقليدية التي تفرض نفسها بقوة في حياة الشباب، وتحاول البطلة / الشاعرة/ الأكاديمية أن تتحداها، وتقدم طرحها المستقل حولها، وهو طرح في مجمله ينطلق من مفاهيم حرية المرأة ورغبتها في إثبات ذاتها، وعدم الاستسلام لنمطية الحياة : الزواج والأولاد والرغبة في الزوج الثري، لتكون طامحة إلى عالم ثقافي وعلمي متميز، ولها الحق في اختيار شريك حياتها، وأن تتزوج في الوقت الذي تريده، ومن الشخص الذي تريده. كل هذا يتم على لسان شخصية سارة، التي حمّلتها الساردة / المؤلفة الكثير من أفكارها ورؤاها حول المرأة الجديدة، فتاة المستقبل، فيمكن أن نطلق عليها رواية " المرأة الكويتية الجديدة" التي تخالف النظرات التقليدية حول المرأة : قعيدة المنزل، بسيطة التفكير، طموحاتها مادية، وفي أحسن الأحوال طموحات متعلقة بما ينجزه الزوج وما يحققه الأبناء. 

        إنها الرواية الأولى للأديبة منى الشافعي، وقد صيغت بروح رومانسية عالية، وبأسلوب موسوم بكلمات مرهفة، وتدور الرواية – عبر شخصية "سارة " - حول المرأة الجديدة العصرية، التي ترغب في إثبات ذاتها، ونيل ما تتمناه من حب بعيدا عن الاختيار التقليدي، فخلال دراستها في جامعة الكويت، تلتقي بالدكتور خالد، وعلى قدر سرعة تكوّن الحب بينهما، على قدر خسارتها لهذا الحب، لرفض والدته هذا الزواج  لأسباب مذهبية تفرق بين أبناء المجتمع، واكتشفت سارة أن خالدًا ضعيف الشخصية، يعيش في فلك أمه، وغير قادر على اتخاذ قرار يخص حياته الشخصية، ويحفظ حبهما معا.

        أما البناء الفني في رواية " ليلة الجنون " فهو فريد قائم على وجود شخصية أخرى أشبه بالظل أو الكائن الخفي، وقد تسللت تلك الشخصية/إلى جسد البطلة (في رواية ليلة الجنون )، ونجد أمها قد أخبرتها بتسلل هذه الشخصية منذ الميلاد في عزف سردي أقرب إلى الأسطورة، فالشخصية الظل تحاور البطلة، وتطلُّ في ثنايا السرد الروائي بصوت خفي، يحاول أن يشكل صوتا مضادا أو معارضا أو ناصحا أو موضحا لمسيرة وحركات البطلة، فهي تقترب هنا من عالم الفانتازيا بعض الشيء، وفي كلتا الروايتين ولدت الشخصية عقب ميلاد البطل.

        وتبدو الشخصية / الظل، غير محددة المعالم، إنها مجرد صوت يظهر على هيئة منولوج داخلي بين الساردة وظلها، فهي أشبه بالتوأم / المحاور / الكائن المصاحب.  وهي أيضا فكرة منبثة في كثير من العوالم الشعرية، أساسها وجود ذات أخرى تحاور الذات المبدعة، وتناقشها، وهو ما يسمى استحضار ذوات جدلية، بشكل فانتازيّ، وإن كانت الرسالة واضحة في هذه الرواية، والتي تتمثل في أن كل أديب يتعايش مع قضايا المجتمع، ويرغب في المزيد من التحرر، والانطلاق الفكري والثقافي، للمجتمع.  

        وتأتي الرواية الثانية - لمنى الشافعي - " يطالبني بالرقصة كاملة "، لتكون تجربة مدهشة، لأنها تمثل نقلة فنية لمنى الشافعي، وإن كانت لا تزال على رؤيتها الرومانسية في الحياة، وتتناول موضوعا من واقع الحياة، مشكلة من المشكلات الاجتماعية، وإن كانت نادرة الحدوث.

        تدور الرواية حول شخصيتي نورة وفوزية، الصديقتين الحميمتين منذ الصغر، تجمعهما أحلام واحدة وأمانٍ مشتركة، يتزوج يوسف من "نورة" الجميلة، ذات الشخصية المتدفقة بالحماسة والنشاط والتفاعل الاجتماعي، وتنجب من يوسف  ابنتين هما نوف وفرح، في الوقت الذي اكتفت فيه الصديقة الثانية "فوزية" بعملها، وعاشت في رومانسيتها الحالمة، وواصلت ترقيها الوظيفي في حقل التربية والتعليم، حتى تفاجأ بمرض صديقتها " نورة " ومن ثم دخولها في غيبوبة طويلة ستمتد سنوات، فاقدة من خلالها قواها العقلية والجسدية، وملازمة للسرير في منزلها، وحين أفاقت بعد سنوات طويلة، كانت ابنتاها قد كبرتا، أما زوجها يوسف فقد عالج المشكلة الأسرية التي واجهته، حيث تزوج من صديقة عمرها "فوزية"، التي أحبته بشدة، وأشبعت حياته برومانسيتها الرقيقة، وتعهدت ابنتيه بالرعاية والاهتمام، وتتوقف الأحداث في الرواية عند هذا الوضع، يوسف لديه زوجتان محبتان له، الأولى : زوجته أم البنتين، وحين أفاقت من غيبوبتها بعد سنوات طويلة، أرادت أن تعوض ما فاتها، وتسترد زوجها، أما فوزية فهي متعلقة بالزوج، مستشعرة أنها ضحت كثيرا من أجل البنتين، ويظل يوسف الزوج، محبا للزوجتين، يريدهما معا.

        اعتمدت البنية السردية على الحكي من أطراف/ ثلاثة، كل طرف يروي الحدث من وجهة نظره، ضمن بنية زمنية غير متسلسلة، لأن الرواية جاءت على ألسنة ثلاث شخصيات، الزوج يوسف، وزوجتيه : نورة وفوزية، فكلٌ يروي الحدث من وجهة نظره، ويلتزم تتابعا زمنيا للأحداث من وجهة نظره الخاصة، فتنثال الأحداث من وجهة نظر كل شخصية، بزمنها الخاص، ومنطقها الخاص، تضيء سمات الشخصية الراوية، وتكمل الحدث الذي روته الشخصيتان الأخريان.

    كما نجد الزمن السردي واحدا لدى الأصوات الثلاثة، يمتد من يوم إفاقة نورة من الغيبوبة، ويمتد أياما، ولكنه تارة يعود إلى الوراء على لسان كل شخصية، وتارة ينظر إلى المستقبل، دون تنبؤ أو استشراف، فكل طرف يريد أن يحتفظ بحياته الخاصة وذكرياته الجميلة، وهكذا يمكن أن نسمي الزمن هنا زمنا واحدا، وخواطر الشخصيات تدور حوله، مسترجعة ومستشرفة، بل هو متحرك حسب رؤية كل شخصية للأحداث ومراجعتها للأمور.

        وأما المكان الرئيسي فيكاد ينحصر في منزل واحد، المنزل الذي يجمع عائلة يوسف الزوج مع زوجتيه فوزية ونورة والبنتين، ولم يظهر المكان إلا متناثرا، في ثنايا السرد، وحسب حركة الشخصيات، فيوسف ما بين غرفة مكتبه، وغرفتي الطعام والاستقبال، وفوزية غالبا في غرفة نومها، أما البنتان فهما إما خارج المنزل في دراستهما أو في غرفتيهما داخله، فلا تظهر خصوصية معينة للمكان، بل مجرد وعاء للشخصيات، وذكرياتها.

        ولاشك أن منى الشافعي تكتسب الجديد من النضج الفني، والتوهج الإبداعي، في إصداراتها المتتابعة، والتي هي إضافة دون شك للسرد الكويتي.

 



*  أكاديمي مصري مقيم في الكويت.